الأربعاء، 16 أكتوبر 2013

ام البروم


لكن، اذا كان الوجه المشرق للمدينة يحيل دائما الى الجانب الحي منها، شوارعها، مقاهيها،حدائقها وضفاف انهارها التي تصنع بهجة ابنائها، وتشارك فيها، فان جانبا يظل طي الكتمان، يواصل رسائلة الخفيفة على الرغم من صمته الطويل، اذ يكون بمقدور المقبرة ان تشكل على الدوام نقطة أخيرة على سطر،وفراغا فسيحا في المكان، يشكل بزهد قبوره العلامة التي تشير لوجه المدينة الأخر، وتكشف في لحظة عابرة عن القدرة التي توآخي بين الحياة والموت في مكان واحد.
والبصرة، مثل كل المدن الكبيرة، التي تقيم مع المقبرة علاقة غريبة، فهي تمنحها من الزمن ما يكفي، لتكون مهجعا لنهايات ابنائها، ثم تعود لتمد يد الحياة، هذه البقعة من الأرض، فتحولها الى ملعب او حديقة او مركز لالتقاء طرقها. مستجيبة لنداء الحياة، وهو يجدد ويضيء منذ أقدم الأزمان .اذ تشير كتب تواريخ البصرة وإسفار حياتها الى مثل هذا التحول، وهو يأخذ بيد المدينة من حال الى حال.
يمكنك، وانت تمر أمام الإعدادية المركزية في العشار ان تتصور ما كان عليه موقعها قبل عام تشييدها 1922. حيث ستسمع جلبة القوات البحرية العثمانية، وهي تشيد مخزنا للفحم وقودا لبوارجها التي خسرت الحرب، ثم تنظر فترى مقبرة يلوح فيها ضريح احد قواد البحرية.
(أنت لن تخرق الأرض، ولن تبلغ الجبال طولا.) وما انت إلا قبر تأخر قليلا، بل الأنسان يحمل قبره بين جوانحه، اينما توجه، ومهما بلغ.
ذات يوم اقترح السيد محمد صالح الرد يني، رئيس بلدية البصرة عام 1933على وزارة الداخلية ان تنقل مقبرة ام البروم الى مقبرة في المحلة المعروفة الآن بمحلة محمد جواد. التي تضم قبور المسلمين في البصرة منذ مئات السنين، وقد استحصل اقتراحه موافقة الوزارة فصدر الأمر وقضى بوجوب انتقال المقبرة من مكانها في قلب المدينة الى محلة الشيخ محمد جواد، الزاهد حيث قبته المهدمة المحاطة بمئات القبور الصغيرة.
هكذا، بقرار من البلدية تصبح مقبرة ام البروم جزءا من المدينة، حديقة عامرة، تروى بالماء الرفاة (الفرات) كما يشير السيد رجب بركات في كتابه بلدية البصرة، لكن الموتى لا يطالبون أحدا بحق، وأمنهم مهدد من قبل مديري البلديات دائما، فمقبرة الشيخ محمد جواد لم تكن لتسلم من جارفات ومعاول البلدية. فقد شطرها شارع 14 تموز، قبل نصف قرن من الزمان إلى نصفين، وغير ملامحها، ودفع بها الى ان تصبح جزءا من المدينة،
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق